تعرف على عواصم الإمبراطوريات التي حكمت من بغداد عبر العصور

تُعد بغداد، جوهرة بلاد الرافدين، مدينة غنية بالتاريخ العريق، حيث شهدت على صعود وسقوط العديد من الإمبراطوريات العظيمة التي اتخذتها عاصمة لها.

مدينة بغداد

تتربع مدينة بغداد على ضفاف نهر دجلة، حاملةً عبق التاريخ وذاكرة الحضارات العريقة. تأسست بغداد عام 762 ميلادي على يد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، لتصبح عاصمة للخلافة العباسية، مركزاً للثقافة والعلم والفنون.

ازدهرت بغداد خلال العصر العباسي، وشهدت نهضة علمية وثقافية غير مسبوقة. تميزت المدينة بوجود العديد من المكتبات والمدارس والبيمارستانات، وجذب كبار العلماء والمفكرين من جميع أنحاء العالم الإسلامي.

عواصم الإمبراطوريات التي حكمت من بغداد عبر العصور

لم تقتصر إشعاع بغداد على العصر العباسي فحسب، بل ظلت مركزاً هاماً للحكم والإدارة عبر العصور. حكمت من بغداد العديد من الإمبراطوريات العظيمة، وأهمها:

1. عكركوف (دور كوريكالزو)

تُعدّ مدينة دور كوريكالزو، أو عكركوف كما تعرف حاليًا، من أعرق العواصم الإمبراطورية التي نشأت على أرض بغداد. تقع هذه المدينة التاريخية بالقرب من ملتقى نهري دجلة وديالى، غربي مركز بغداد، وقد أسسها الملك الكيشي “كوريكالزو الأول” في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.

حكمت دور كوريكالزو، التي سميت نسبة إلى ملكها الكيشي، لمدة أربعة قرون، وتعتبر زقورة كيش، بارتفاعها البالغ 57 مترًا، من أضخم الأبراج الأثرية الباقية حتى يومنا هذا.

كان كوريكالزو، الملك السابع عشر للسلالة البابلية، قد ورث الحكم عن أبيه “كادشمان هاربي الأول” عام 1375 قبل الميلاد. وخلّد اسمه ببناء مدينة عكركوف، التي عرفت أيضًا باسم “دور كوريكالزو” في النصوص الأثرية، وزقورة عكركوف.

يُذكر أن الكيشيين كانوا سلالة قديمة حكمت العراق من بابل بعد انهيار دولة بابل الأولى عام 1531 قبل الميلاد.=

2. المدائن (سلوقيا)

بنى سلوقس نيكاتور، أحد قادة جيش الإسكندر الأكبر، مدينة سلوقية عام 312 قبل الميلاد لتكون عاصمة لإمبراطوريته السلوقية التي امتدت من تراقيا في أوروبا إلى الهند في الشرق.

اختار سلوقس موقع المدينة بعناية فائقة، حيث تقع على بُعد 40 كيلومترًا جنوب شرق بغداد، على نهر دجلة، بالقرب من موقع بابل القديمة، مما جعلها مركزًا تجاريًا هامًا يربط بين الشرق والغرب.

علاوة على موقعها المميز، تميزت سلوقية بطابعها الهلنستي الفريد، حيث جمعت بين الثقافة الإغريقية والشرق أوسطية. فقد بنى سلوقس العديد من المعابد والقصور والمباني العامة على الطراز الإغريقي، بينما عاش فيها شعوب متنوعة من الإغريق والفرس والبابليين والسوريين.

ازدهرت سلوقية لعدة قرون، لكنها واجهت غزوات متكررة من قبل الإمبراطوريات المجاورة. في عام 141 قبل الميلاد، استولى عليها الفرثيون، وأصبحت قطسيفون عاصمةً لهم بدلاً من سلوقية.

مع مرور الوقت، فقدت سلوقية أهميتها وتدمرت تدريجيًا.

اليوم، لا تزال أطلال سلوقية موجودة، وتُعدّ موقعًا أثريًا هامًا يُظهر عظمة الحضارة الهلنستية في بلاد ما بين النهرين.

3. طيسفون (سلمان باك)

تقع مدينة طيسفون، عاصمة الساسانيين والفرثيين، على الضفة الشرقية لنهر دجلة، قرب سلمان باك جنوب شرق بغداد، تاركةً وراءها أثرًا خالداً يتمثل بـ “طاق كسرى”.

يُرجّح الدكتور أحمد حسين الجميلي، أستاذ التاريخ القديم، أن الفرثيين (الأرشاقيون) هم من بنى المدينة، ليطلق عليها العرب المسلمون فيما بعد اسم “المدائن” لكونها ضمّت مدنًا متجاورة.

سيطر الفرثيون على العراق في حدود 140 ق.م بعد السلوقيين، وشيدوا طيسفون عاصمة جديدة لهم مقابل سلوقيا على الضفة الشرقية لنهر دجلة.

تمتعت طيسفون بأهمية تاريخية عظيمة، بفضل موقعها الاستراتيجي المؤدي إلى جنوب العراق ومياه الخليج العربي، ووفرة المياه والأرض الخصبة وكثافة النخيل.

امتدت مساحة طيسفون الزمنية والجغرافية على مدار 3 آلاف سنة، لتكون مركزًا هامًا للعمليات العسكرية عاصمة شتوية للساسانيين.

4. دار السلام

اختار الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور موقع بغداد على رقعة مرتفعة غربي نهر دجلة، لما يتمتع به من مميزات استراتيجية واقتصادية. فموقعها بين دجلة والفرات يجعلها نقطة عبور حتمية للمسافرين من مختلف الاتجاهات، كما أنها قريبة من البر والبحر والجبل، مما يسهل التنقل والتجارة.

وُضع حجر الأساس لبناء بغداد عام 145هـ/762م، واكتمل بناؤها عام 149هـ/767م، لتتحول إلى عاصمة ضخمة تضم العديد من القصور والمساجد والمكتبات.

ازدهرت بغداد في العصر العباسي، لتصبح مركزًا ثقافيًا وتجاريًا وفكريًا هامًا. ضمت المدينة العديد من المؤسسات العلمية مثل بيت الحكمة، واشتهرت كوجهة لطلاب العلم من جميع أنحاء العالم.

استمر حكم الدولة العباسية من بغداد لأكثر من 5 قرون، شهدت خلالها إزدهارًا ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا هائلاً. عرفت هذه الحقبة بالعصر الذهبي للإسلام، حيث حكمت الإمبراطورية العباسية بلادًا واسعة تمتد من مصر إلى بلاد فارس، وخلّفت إرثًا حضاريًا غنيًا ما زال أثره باقيًا حتى اليوم.

رمزية بغداد: منارة حضارية عريقة تواجه تحديات إعادة البناء

يُجمع الباحثون على الأهمية التاريخية والحضارية لمدينة بغداد، التي اختارها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور موقعًا لبناء عاصمة دولته، لتكون قبلة للعلم والثقافة والحضارة لقرون طويلة.

واجهت بغداد عبر تاريخها الطويل محاولات غزو من قبل قوى خارجية، نظرًا لما تمثله من رمزية حضارية وقوة سياسية واقتصادية.

يُعرب الباحثون عن أسفهم لتراجع مكانة بغداد بعد الغزو الأمريكي عام 2003، ممّا يتطلب إعداد رؤية استراتيجية جديدة لإعادة بناء المدينة وتأهيلها، بما يتناسب مع المتغيرات الراهنة.

يؤكد خبراء على إمكانية إعادة إحياء بهجة بغداد من خلال التخطيط السليم وتوفير الخدمات الأساسية وتحسين الواقع المعيشي، مع ضرورة تفعيل حملة وطنية تُبرز عظمة تاريخ المدينة وتُخلد إرثها الحضاري للأجيال القادمة.

اقرأ أيضاً:

ختاماً، تُجسد بغداد عبر عواصمها المتعاقبة قصة حضارة عريقة تركت بصماتها على التاريخ. من عكركوف العريقة إلى دار السلام العباسية، ظلت بغداد منارةً للإشعاع الفكري والثقافي، وحكايةً خالدة تُروى عبر العصور.

Related Articles

Back to top button